فصل: تفسير الآيات (36- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (11- 15):

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)}
وقوله تعالى: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} الآية، لا خلافَ بَيْنَ المفسرين أن هذه الآيةَ نزلتْ في الوليدِ بن المغيرةِ المخزومي، فَرُوِيَ أنَّه كَانَ يُلَقَّبُ الوحيدَ أي: لأنه لاَ نَظِيرَ له في مالهِ وشَرَفهِ في بيتِه، فَذَكَرَ الوَحِيدَ في جملة النِّعَمِ التي أُعْطِيَ، وإنْ لم يَثْبُتْ هذا فقوله تعالى: {خَلَقْتُ وَحِيداً} معناه: منفَرِداً قليلاً ذَلِيلاً، والمالُ الممدودُ قال مجاهد وابن جبير: هو ألْفُ دينار، وقال سفيان: بلغني أَنَّهُ أربَعة آلافٍ؛ وقاله قتادة: وقيل عَشَرَةُ آلافِ دينار، قال * ع *: وهذا مَدّ في العدَدِ، وقال عمر بن الخطاب: المالُ الممدودُ: الرَّيْع المستغَلُّ مُشَاهَرةً.
{وَبَنِينَ شُهُوداً} أي حُضُوراً، قيل عشَرَةٌ وقِيلَ ثَلاَثَةُ عَشَرَ، قال الثعلبيُّ: أسْلَم منهم ثلاثةٌ خَالد بْن الوليدِ، وهِشَام، وعِمَارَة، قالوا: فما زال الوليدُ بَعْد نزولِ هذهِ الآيةِ في نُقْصَانٍ مِنْ مالهِ وَوَلدِه حتَى هلك، انتهى.
{وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} قال سفيانُ: المعنى بَسَطْتُ له العيشَ بَسْطاً.

.تفسير الآيات (16- 28):

{كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)}
وقوله تعالى: {كَلاَّ} رَدْعٌ وَزَجْرٌ له على أُمْنِيَّتِه، و{أُرْهِقُهُ} معناه أُكَلِّفُه بمشقَةٍ وعُسْرُ، وصَعُودٌ عَقَبَةٌ في نَارِ جهنَّمَ، روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: كُلَّما وُضِعَ عليها شَيءٌ مِن الإنْسَانِ ذَابَ، ثم يَعُودُ، والصَّعودُ في اللغة: العَقَبَةُ الشَّاقَة.
وقوله تعالى مخبراً عن الوليد: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} الآية، رَوَى جمهورٌ من المفسرينَ: أن الوليدَ سَمِعَ من القرآن ما أعْجَبَه وَمَدحَه، ثم سمِعَ كذلك مراراً، حتى كَادَ أنْ يُقَارِبَ الإسْلامِ، وقال: واللَّه لَقَدْ سمعتُ من محمدٍ كلاماً مَا هُو مِنْ كلامِ الإنْسِ، ولا هو مِنْ كَلامِ الجنِّ، إنَّ له لحَلاَوةً، وإنَّ عليه لَطَلاَوَةً، وإنَّ أَعْلاَهُ لمثمرٌ، وإنَّ أسْفَلَه لَمُغْدِقٌ، وإِنَّه يَعْلُو، وَمَا يُعْلَى، فقالتْ قريشٌ: صَبَأَ الوليدُ واللَّه لتصبأَنَّ قريشٌ، فقال أبو جهل: أنا أكْفِيكُمُوه فَحاجَّه أبو جهل وجماعة حتَى غَضِبَ الوليدُ، وقال: تَزْعُمُون أَنَّ محمداً مجنُونٌ، فَهَلْ رأيتمُوه يُخْنَقُ قَط؟ قالوا: لا، قال: تزعمُون أنه شاعر، فهل رأيتموه يَنْطِق بشعرٍ قط؟ قالوا: لا، قال: تَزْعَمُونَ أَنّه كاهنٌ، فهل رأيتموه يتكهن قط؟ قالوا؛ لا، قال: تَزْعمُونَ أَنَّه كذابٌ، فَهَلْ جَرَّبْتُمْ عليه شيئاً من الكذبِ قط؟ قالوا: لا، وكانوا يُسمُّونه قبلَ النبوةِ الأمِينُ لِصِدْقِهِ، فَقَالَتْ قريش: ما عندَك فيه؟ فتفكَّرَ في نفسه، فقال: ما أرى فيه شيئاً مما ذكرتمُوه فقالوا: هو ساحرٌ، فقال: أما هذا فُيُشْبِه، وألفاظ الرواة هنا مُتَقَارِبَة المعاني مِنْ رواية الزهري وغيره.
وقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} قَالَ الثعلبيُّ وغيرُه: {قُتِلَ} معناه: لُعِنَ، انتهى.
{وَبَسَرَ} أي قَطَبَ مَا بَيْنَ عينيه واربد وَجْهُه ثم أدْبَر عَنْ الهُدَى بعد أن أقْبَلَ إليهِ، وقال: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي: يُرْوَى، أي: يرويه محمدٌ عن غيره.
و{سَقَرَ} هي الدَّرْكُ السادسِ منَ النَّارِ، {لاَ تُبْقِى} عَلَى مَنْ أُلْقي فيها {وَلاَ تَذَرُ} غايةً من العذاب إلا وَصَّلَتْه إليه.

.تفسير الآيات (29- 35):

{لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)}
وقوله تعالى: {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} قال ابن عباس وجمهور الناس: معناه مُغَيِّرَةٌ للبَشَرَاتِ ومُحَرِّقَةٌ للجُلودِ مُسَوِّدَة لها، فالبَشَرُ جَمْع بَشَرَةٍ، وقال الحسن وابن كَيْسَانَ: {لَوَّاحَةٌ} بِنَاء مبالغَةٍ من لاَحَ يَلُوحُ إذا ظَهَرَ، فالمعنى أنها تظهرُ للناسِ وهم البَشَرُ من مسيرةِ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وذلك لعظمِها وهَوْلِهَا وزفيرها.
وقولُه تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} لاَ خِلاَفَ بينَ العلماءِ أنهم خَزَنَةُ جهنمَ المحيطونَ بأمْرِها الذين إليهم جِمَاع أمْرِ زبانِيَتِها، ورُوِي أن قريشاً لما سَمِعَتْ هذا كَثُرَ لَغَطُهم فيه، وقالوا: ولَوْ كَانَ هذا حقاً، فإن هَذَا العَدَدَ قليلٌ، وقالَ أبو جهل: هؤلاء تسعةَ عشَرَ، وأنْتُمْ الدُّهْمُ أي: الشُّجْعَانُ: أفَيَعْجَزُ عشرةٌ منا عن رجلٍ منهم إلى غير هذا من أقوالهم السخيفةِ.
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إِلاَّ مَلَئِكَةً} تَبْيينٌ لفسادِ أقوالِ قريشٍ، أي: إنا جَعَلْنَاهم خَلْقاً لا قِبَلَ لاًّحَدٍ من الناس بهم وجعلنا عِدَّتَهم هذا القدرَ فتنةً للكفارِ لِيَقَع منهم من التعاطِي والطَّمَعِ في المغالَبَةِ ما وقع، ولِيَسْتَيْقِنَ أهلُ الكتابِ التوراةِ والإنجيلِ أنَّ هذا القرآنَ مِنْ عندَ اللَّهِ، إذْ هُمْ يَجِدُونَ هذهِ العدةَ في كُتُبِهم المنزَّلةِ، قال هذا المعنى ابنُ عباسٍ وغيرُه، وبوُرُودِ الحقائقِ من عندِ اللَّه عز وجل يَزْدَادُ كلُّ ذِي إيمانٍ إيمَاناً، ويَزُولُ الرَّيْبُ عَنِ المُصَدِّقِينَ مِنْ أهْلِ الكتابِ ومِنَ المؤمنين.
وقوله سبحانه: {وَلِيَقُولَ الذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ...} الآية، نوعٌ من الفتنةِ لهذا الصِّنفِ المنافِق أو الكافرِ، أي حَارُوا وَلَمْ يَهْتَدُوا لِمَقْصِدِ الحقِ، فجعلَ بَعْضُهم يَسْتَفْهِمُ بَعْضاً عن مرادِ اللَّه بهذا المثل، استبعاداً أنْ يكونَ هذا مِنْ عِندِ اللَّهِ، قال الحسين بن الفضل: السورة مكيَّةٌ وَلَمْ يكن بمكةَ نِفَاقٌ وإنَّما المرض في هذه الآيةِ الاضْطِرَابُ وضَعْفُ الإيمانِ، ثم قَالَ تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} إعْلاماً بأن الأمْرَ فَوْقَ ما يُتَوَهَّمُ، وأنَّ الخبرَ إنما هُو عَنْ بَعْضِ القدرةِ لاَ عَنْ كُلِّها، * ت *: صوابُه أنْ يقولَ عَنْ بَعْضِ المقدوراتِ لاَ عَنْ كُلِّها؛ وهذا هو مُرَادُه، ألاَ تَرَاهُ قال في قوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] قال: يعني بشيءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِه؛ لأنّ علمَه تعالى لاَ يَتَجَزَّأُ، فافْهم رَاشِداً، والسموات كُلُّها عامرةٌ بأَنواعٍ من الملائِكَةِ؛ كلُّهم في عبادَةٍ مُتَّصِلَةٍ وخُشُوعٍ دائمٍ، لا فَتْرَةَ في شيءٍ من ذلك، ولا دَقِيقَةً واحدة، قال مجاهد: والضميرُ في قوله: {وَمَا هِىَ} للنارِ المذكورةِ، أي: يُذَكَّرُ بهَا البشرُ فَيَخَافُونَها، فيطيعونَ اللَّه، وقال بعضهم: قوله: {وَمَا هِىَ} يرادُ بها الحالُ والمخَاطبةُ والنِّذَارَةُ، وأقْسَمَ تعالى بالقَمَرِ وما بَعدَه تَنْبيهاً عَلَى النَّظَرِ في ذلكَ والفكرِ المؤدِّي إلى تعظيمهِ تعالَى وتحصيلِ معرفتِه تعالى مَالكِ الكلِّ وقوامِ الوُجُودِ، ونورِ السماواتِ والأرضِ، لاَ إله إلاَّ هو العزيزُ القهارُ، وأدْبَرَ الليلُ معناه ولّى، وأسْفَرَ الصبح أضَاءَ وانتشرَ ضوؤه، قال ابن زيد وغيره: الضميرُ في قوله: {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر} لجهنمَ، ويحتملُ أنْ يكُونَ الضميرُ للنِّذَارَةِ وأمْرِ الآخرة؛ فهو للحالِ والقِصَّة، * ص *: والكُبَرُ جَمْعُ كُبْرى، وفي * ع *: جَمْعُ كبيرةٍ ولَعَلَّه وَهْمٌ من الناسِخ، انتهى.

.تفسير الآيات (36- 41):

{نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)}
وقوله سبحانه: {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ} قال الحسن: لا نَذِيرَ أدْهَى مِنَ النارِ، وقال ابن زيد: {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ} هُوَ محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} قال الحسن: هو وعيد نحو قوله: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ثم قوَّى سبحانه هذا المعنى بقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}: إذ لزم بهذا القول أنَّ المُقَصِّرَ مرتهن بسوءِ عمله، وقال الضَّحَّاكُ: المعنى: كل نفس حَقَّتْ عليها كلمة العذاب، ولا يرتهن تعالى أحداً من أهل الجنة إنْ شاء اللَّه.
وقوله تعالى: {إِلاَّ أصحاب اليمين} استثناءٌ ظاهره الانفصال، تقديره: لكن أصحاب اليمين في جنات.
* ص *: {فِي جنات} أي: هم في جنات، فيكون خبر مبتدإ محذوف.
* م *: وأعربه أبو البقاء حالاً من الضمير في {يَتَسَاءَلُونَ}، انتهى.
قال ابن عباس: {أصحاب اليمين} هنا الملائكة، وقال الضَّحَّاكُ: هم الذين سبقت لهم من اللَّه الحسنى، وقال الحسن وابن كَيْسَانَ: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين.
* ت *: وأسند أبو عمر بن عبد البر عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أصحاب اليمين} قال: أصحاب اليمين: أطفال المسلمين، انتهى من التمهيد.

.تفسير الآيات (42- 49):

{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)}
وقولهم: {مَا سَلَكَكُمْ} أي: ما أدخلكم، فيحتمل أنْ يكون من قول أصحاب اليمين الآدميين أو من قول الملائكة.
وقوله تعالى: {قَالُواْ} يعني الكفار {لَمْ نَكُ مِنَ المصلين...} الآية، وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان باللَّه، والمعرفة به، والخشوع له {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين} يشمل الصدقة فرضاً كانت أو نفلاً، والخوض مع الخائضين: عَرَّفه في الباطل والتكذيب بيوم الدين كفر صراح {حتى أتانا اليقين} يعني الموت؛ قاله المفسرون.
قال * ع *: وعندي: أَنَّ اليقين صِحَّةُ ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى اللَّه والدار الآخرة، وقد تقدم ذكر أحاديث الشفاعة؛ قال الفخر: واحتجَّ أصحابنا بهذه الآية على أَنَّ الكفار يُعَذَّبُونَ بترك فروع الشريعة، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول انتهى.

.تفسير الآيات (50- 56):

{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}
وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} إثبات لجهلهم؛ لأَنَّ الحمر من جاهل الحيوان جدًّا، وفي حَرْفِ ابن مسعود: {حُمُرٌ نَافِرَةٌ} قال ابن عباس وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: القسورة: الأسد، وقيل غير هذا، {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ} أي: من هؤلاء {أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} أي: يريد كل إنسان منهم أنْ ينزل عليه كتاب من اللَّه، ومنشرة، أي: منشورة غير مطوية.
وقوله: {كَلاَّ} رَدٌّ على إرادتهم، أي: ليس الأمر كذلك، ثم قال: {بَل لاَّ يَخَافُونَ الأخرة} المعنى: هذه هي العلة والسبب في إعراضهم، فكان جهلهم بالآخرة سَبَبَ امتناعهم من الهدى حتى هلكوا، ثم أعاد تعالى الرد والزجر بقوله: {كَلاَّ} وأخبر أنَّ هذا القولَ والبيانَ وهذه المحاورة بجملتها {تَذْكِرَةٌ} {فَمَن شَاءَ}: ووفقه اللَّه لذلك، ذَكَرَ معادَه؛ فعمل له، ثم أخبر سبحانه أنَّ ذكر الإنسان مَعَادَهُ وجريَه إلى فلاحه؛ إنَّما هو كله بمشيئة اللَّه تعالى، وليس يكون شيء إلاَّ بها، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير: {يَذْكُرُونَ} بالياء من تحت.
وقوله سبحانه: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة} خبر جزم معناه: أَنَّ اللَّه عز وجل أَهْلٌ بصفاته العُلَى ونِعَمِهِ التي لا تحصى لأَنْ يتقى ويُطَاعَ أمره، ويُحْذَرَ عصيانه، وأَنَّه بفضله وكرمه أَهْلٌ أنْ يَغْفِرَ لعبادِهِ إذا اتقوه؛ رَوَى ابْنُ مَاجَه عن أنَسٍ: «أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَذِهِ الآية: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة} فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أتقى، فَلاَ يُجْعَلَ مَعِيَ إله آخَرُ، فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِيَ إلَهاً آخَرَ، فَأَنَا أَهْلٌ أنْ أَغْفِرَ لَهُ» وأخرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه، وقال: حديث حسن، انتهى.

.تفسير سورة القيامة:

وهي مكية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 9):

{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)}
قوله عز وجل: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة * وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير: {لأُقْسِمُ بِيَومِ الْقِيَامَةِ وَلأُقْسِمُ} فقيل: على قراءة الجمهور {لا} زائدة، وقال الفَرَّاءُ: {لا} نفيٌ لكلام الكفار، وزجر لهم، ورَدٌّ عليهم، وجمهور المتأوِّلين على أَنَّ اللَّه تعالى أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، أقسم سبحانه بيوم القيامة؛ تنبيهاً منه على عِظَمِهِ وهوله؛ قال الحسن: النفس اللَّوَّامَةُ: هي اللوامة لصاحبها في ترك الطاعة ونحو ذلك، فهي على هذا ممدوحة؛ ولذلك أقسم اللَّه بها، وقال ابن عباس وقتادة: اللوامة: هي الفاجرة، اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها، وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها، والنفس في الآية اسم جنس.
قال * ع *: وكل نفس متوسطة ليست بالمُطْمَئِنَّةِ ولا بالأَمَّارَةِ بالسوء فإنَّها لوَّامة في الطرفين، مرةً تلوم على ترك الطاعة، ومرةً تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنَّتْ خلصت وصفت، قال الثعلبيُّ: وجواب القسم محذوف تقديره: لَتُبْعَثُنَّ، دَلَّ عليه قوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} أي: للإحياء والبعث، والإنسان هنا الكافر المُكَذِّبُ بالبعث، انتهى، والبنان: الأصابع، و{نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ} معناه: نتقنها سَوِيَّةً؛ قاله القتبي، وهذا كله عند البعث، وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: المعنى: بل نحن قادرون أنْ نسوي بنانه، أي: نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كَخُفِّ البعير أو كحافر الحمار، لا يمكنه أنْ يعمل بها شيئاً، ففي هذا تَوَعُّدٌ ما، والقول الأول أجرى مع رصف الكلام.
{بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} معناه: أنَّ الإنسان إنَّما يريد شهواتِهِ ومعاصِيَه؛ ليمضيَ فيها أبداً راكباً رأسه، ومطيعاً أمله، ومُسَوِّفاً توبته؛ قال البخاريُّ: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} يقول: سوف أتوب، سوف أعمل، انتهى.
قال الفخر: قوله: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} فيه قولان:
الأَوَّل: ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان، لا ينزع عنه؛ فَعَنِ ابن جُبَيْرٍ: يقدم الذنب، ويُؤَخِّرُ التوبة، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوإ أعماله.
القول الثاني: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} أي: يُكَذِّبُ بما أمامه من البعث والحساب؛ لأَنَّ من كذب حَقًّا كان مفاجراً، والدليل على هذا القول قوله تعالى: {يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} أي: متى يكون ذلك؛ تكذيباً له، انتهى.
وسؤال الكفار {أَيَّانَ} هو على معنى التكذيب والهزء، و{أَيَّانَ} بمعنى: متى، وقرأ نافع وعاصم بخلافٍ: {بَرَقَ الْبَصَرُ} بفتح الراء بمعنى: لَمَعَ وصار له بريق، وحار عند الموت، وقرأ أبو عمرو وغيره بكسرها بمعنى: شَخَصَ، والمعنى متقارب، قال مجاهد: هذا عند الموت، وقال الحسن: هذا في يوم القيامة، قال أبو عبيدة وجماعة من اللغويين: الخسوف والكسوف بمعنى واحد، وقال ابن أبي أُوَيْسٍ: الكسوف: ذهابُ بعض الضوء، والخسوف: ذهاب جميعه، وروى عروة وسفيان أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَقُولُوا كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَلَكِنْ قُولُوا: خَسَفَتْ» وقرأ ابن مسعود: {وَجُمِعَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ} واختلف في معنى الجمع بينهما فقال عطاء: يجمعان فيقذفان في النار، وقيل: في البحر فيصيرا نارَ اللَّه العُظْمَى، وقيل: يُجْمَعُ الضَّوْءانِ فيذهب بهما؛ قال الثعلبيُّ: وقال علي وابن عباس: يجعلان في نور الحجب، انتهى.